فصل: حجة القائلين بأن أو للتخيير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فقه السنة



.الحرابة:

.تعريفها:

الحرابة - وتسمى أيضا قطع الطريق - هي خروج طائفة مسلحة في دار الإسلام، لاحداث الفوضى، وسفك الدماء، وسلب الأموال، وهتك الاعراض، وإهلاك الحرث والنسل، متحدية بذلك الدين والاخلاق والنظام والقانون.
ولا فرق بين أن تكون هذه الطائفة من المسلمين، أو الذميين، أو المعاهدين أو الحربيين، مادام ذلك في دار الإسلام، وما دام عدوانها على كل محقون الدم، قبل الحرابة من المسلمين والذميين.
وكما تتحقق الحرابة بخروج جماعة من الجماعات، فإنها تتحقق كذلك بخروج فرد من الافراد.
فلو كان لفرد من الافراد فضل جبروت وبطش، ومزيد قوة وقدرة يغلب بها الجماعة على النفس والمال، والعرض، فهو محارب وقاطع طريق.
ويدخل في مفهوم الحرابة العصابات المختلفة، كعصابة القتل، وعصابة خطف الاطفال، وعصابة اللصوص للسطو على البيوت، والبنوك، وعصابة خطف البنات والعذارى للفجور بهن، وعصابة اغتيال الحكام ابتغاء الفتنة واضطراب الأمن، وعصابة إتلاف الزروع وقتل المواشي والدواب.
وكلمة الحرابة مأخوذة من الحرب، لأن هذه الطائفة الخارجة على النظام تعتبر محاربة للجماعة من جانب ومحاربة للتعاليم الإسلامية التي جاءت لتحقق أمن الجماعة وسلامتها بالحفاظ على حقوقها، من جانب آخر.
فخروج هذه الجماعة على هذا النحو يعتبر محاربة، ومن ذلك أخذت كلمة الحرابة، وكما يسمى هذا الخروج على الجماعة وعلى دينها حرابة، فإنه يسمى أيضا قطع طريق، لأن الناس ينقطعون بخروج هذه الجماعة عن الطريق، فلا يمرون فيه، خشية أن تسفك دماؤهم، أو تسلب أموالهم، أو تهتك أعراضهم أو يتعرضون لما لا قدرة لهم على مواجهته، ويسميها بعض الفقهاء بالسرقة الكبرى.

.الحرابة جريمة كبرى:

والحرابة - أو قطع الطريق - تعتبر من كبريات الجرائم، ومن ثم أطلق القرآن الكريم على المتورطين في ارتكابها أقصى عبارة فجعلهم محاربين لله ورسوله، وساعين في الأرض بالفساد وغلظ عقوبتهم تغليظا لم يجعله لجريمة أخرى.
يقول الله سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم} ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن أن من يرتكب هذه الجناية ليس له شرف الانتساب إلى الإسلام، فيقول: «من حمل علينا السلاح فليس منا» رواه البخاري، ومسلم من حديث ابن عمر.
وإذا لم يكن له هذا الشرف وهو حي، فليس له هذا الشرف بعد الوفاة، فإن الناس يموتون على ما عاشوا عليه، كما يبعثون على ما ماتوا عليه.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من خرج على الطاعة، وفارق الجماعة ومات، فميتته جاهلية». أخرجه مسلم.

.شروط الحرابة:

ولا بد من توافر شروط معينة في المحاربين حتى يستحقوا العقوبة المقررة لهذه الجريمة: وجملة هذه الشروط هي:
1- التكليف.
2- وجود السلاح.
3- البعد عن العمران.
4- المجاهرة.
ولم يتفق الفقهاء على هذه الشروط، وإنما لهم فيها مناقشات نجملها فيما يلي:

.1- شرط التكليف:

يشترط في المحاربين: العقل، والبلوغ، لأنهما شرطا التكليف الذي هو شرط في إقامة الحدود.
فالصبي والمجنون لا يعتبر الواحد منهما محاربا، مهما اشترك في أعمال المحاربة، لعدم تكليف واحد منهما شرعا، ولم يختلف في ذلك الفقهاء، ولكن اختلفوا فيما إذا اشترك في الحرابة صبيان أو مجانين.
فهل يسقط الحد عمن اشتركوا فيها بسقوطه عن هؤلاء الصبيان أو المجانين؟ قالت الأحناف: نعم يسقط الحد، لأنه إذا سقط عن البعض، فإن هذا السقوط يسري إلى الكل باعتبار أنهم جميعا متضامنون في المسؤولية، وإذا سقط حد الحرابة نظر في الاعمال التي ارتكبت على أنها جرائم عادية يعاقب عليها بالعقوبات المقررة لها.
فإن كانت الجريمة قتلا رجع الأمر إلى ولي الدم، فله أن يعفو، وله أن يقتص وهكذا في بقية الجرائم.
ومقتضى المذهب المالكي، والمذهب الظاهري وغيرهما إنه إذا سقط حد الحرابة عن الصبيان والمجانين، فإنه لا يسقط عن غيرهم ممن اشتركوا في الاثم والعدوان، لأن هذا الحد هو حق لله تعالى، وهذا الحق لا ينظر فيه إلى الافراد.
ولا تشترط الذكورة ولا الحرية، لأنه ليس للانوثة ولا للرق تأثير على جريمة الحرابة، فقد يكون للمرأة والعبد من القوة مثل ما لغيرهما، من التدبير وحمل السلاح والمشاركة في التمرد والعصيان، فيجري عليهما ما يجري على غيرهما من أحكام الحرابة.

.2- شرط حمل السلاح:

ويشترط في المحاربين أن يكون معهم سلاح، لأن قوتهم التي يعتمدون عليها في الحرابة: إنما هي قوة السلاح، فإن لم يكن معهم سلاح فليسوا بمحاربين، لأنهم لا يمنعون من يقصدهم، وإذا تسلحوا بالعصي والحجارة، فهل يعتبرون محاربين؟ اختلف الفقهاء في ذلك.
فقال الشافعي، ومالك، والحنابلة، وأبو يوسف، وأبو ثور، وابن حزم:
وإنهم يعتبرون محاربين لأنه لا عبرة بنوع السلاح، ولا بكثرته، وإنما العبرة بقطع الطريق.
وقال أبو حنيفة: ليسوا بمحاربين.

.3- شرط الصحراء والبعد عن العمران:

واشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك في الصحراء، فإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين، ولان الواجب يسمى حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء، ولان في المصر يلحق الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون مختلسين، والمختلس ليس بقاطع، ولا حد عليه.
وهو قول أبي حنيفة، والثوري، وإسحاق، وأكثر فقهاء الشيعة.
وقول الخرقي من الحنابلة، وجزم به في الوجيز.
وذهب فريق آخر إلى أن حكمهم في المصر والصحراء واحد، لأن الآية بعمومها تتناول كل محارب.
ولأنه في المصر أعظم ضررا، فكان أولى.
ويدخل في هذا العصابات التي تتفق على العمل الجنائي من السلب، والنهب، والقتل.
وهذا مذهب الشافعي، والحنابلة، وأبي ثور.
وبه قال الاوزاعي والليث والمالكية، والظاهرية.
والظاهر أن هذا الاختلاف يتبع اختلاف الأمصار.
فمن راعى شرط الصحراء نظر إلى الحال الغالبة، أو أخذه من حال زمنه الذي لم يقع فيه مثل ذلك في مصره، وعلى العكس من ذلك من لم يشترط هذا الشرط.
ولذا يقول الشافعي: إن السلطان إذا ضعف ووجدت المغالبة في المصر كانت محاربة.
وأما غير ذلك فهو اختلاس عنده.

.4- شرط المجاهرة:

ومن شروط الحرابة المجاهرة بأن يأخذوا المال جهرا، فإن أخذوه مختفين فهم سراق، وإن اختطفوه وهربوا، فهم منتهبون، لا قطع عليهم، وكذلك إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة، فسلبوا منها شيئا، لأنه لا يرجعون إلى منعة وقوة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم، فهم قطاع طريق.
وهذا مذهب الأحناف والشافعية والحنابلة.
وخالف في ذلك المالكية والظاهرية.
قال ابن العربي المالكي: والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر، وإن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها، ومعنى الحرابة موجود فيها، ولو خرج بعضا في المصر يقتل بالسيف ويؤخذ فيه بأشد من ذلك لا بأيسره.
فإنه سلب غيلة، وفعل الغيلة أقبح من فعل المجاهرة، ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة فكان قصاصا، ولم يدخل في قتل الغيلة، فكان حرابة، فتحرر أن قطع السبيل موجب للقتل.
وقال: لقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلي أمر قوم خرجوا محاربين في رفقة، فأخذوا منهم امرأة - مغالبة على نفسها من زوجها، ومن جملة المسلمين معه - فاختلوا بها، ثم جد فيهم الطلب، فأخذوا وجئ بهم، فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين، فقالوا: ليسوا محاربين، لأن الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفروج فقلت لهم: إنا لله وإنا إليه راجعون ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال، وإن الناس ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب بين أيديهم، ولا يرضون أن يحرب المرء في زوجته وبنته؟ ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج، وحسبكم من بلاء صحبة الجهال، وخصوصا في الفتيا والقضاء.
وقال القرطبي: والمغتال كالمحارب، وهو أن يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح، ولكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر، فأطعمه سما فقتله، فيقتل حدا لا قودا، وقريب من هذا القول رأي ابن حزم حيث يقول: إن المحارب هو المكابر، المخيف لأهل الطريق، المفسد في سبل الأرض، سواء بسلاح أم بلا سلاح أصلا سواء ليلا أم نهارا، في مصر أم فلاة، أم في قصر الخليفة، أم في الجامع سواء، وسواء فعل ذلك بجند أم بغير جند، منقطعين في الصحراء أم أهل قرية، سكانا في دورهم أم أهل حصن كذلك، أم أهل مدينة عظيمة أم غير عظيمة، كذلك واحد أم أكثر، كل من حارب المارة وأخاف السبيل بقتل نفس أو أخذ مال، أو لجراحة، أو لانتهاك عرض، فهو محارب عليه وعليهم، كثروا أو قلوا.
ومن ثم يتبين أن مذهب ابن حزم وأسع المذاهب بالنسبة للحرابة، ومثله في ذلك المالكية، لأن كل من أخاف السبيل على أي نحو من الانحاء، وبأي صورة من الصور، يعتبر محاربا مستحقا لعقوبة الحرابة.
عقوبة الحرابة: أنزل الله سبحانه في جريمة الحرابة قوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم}.
فهذه الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد، لقوله سبحانه: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم}.
وقد أجمع العلماء على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدي المسلمين، فأسلموا فإن الإسلام يعصم دماءهم وأموالهم وإن كانوا قد ارتكبوا من المعاصي قبل الإسلام ما يستوجب العقوبة: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام، ومعنى يحاربون الله ورسوله، أي يحاربون المسلمين بما يحدثونه من اضطراب، وفوضى وخوف وقلق، ويحاربون الإسلام بخروجهم عن تعاليمه وعصيانهم لها.
فإضافة الحرب إلى الله ورسوله إيذان بأن حرب المسلمين كأنها حرب الله تعالى ولرسوله، كقوله تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا} فالمحاربة هنا مجازية.
قال القرطبي: يحاربون الله ورسوله، إستعارة، ومجاز، إذ الله سبحانه وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال، ولما وجب له من التنزيه عن الاضداد والانداد والمعنى يحاربون أولياء الله.
فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لاذيتهم كما عبر بنفسه عن الفقراء والضعفاء في قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}.
حثا على الاستعطاف عليهم، ومثله في صحيح السنة: «استطعمتك فلم تطعمني» اه.
سبب نزول هذه الآية: قال الجمهور في سبب نزول هذه الآية: إن العرنيين قدموا المدينة فأسلموا، واستوخموها، وسقمت أجسامهم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى إبل الصدقة، فخرجوا، وأمر لهم بلقاح ليشربوا من ألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا الراعي وارتدوا عن الإسلام وساقوا الإبل فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جئ بهم فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وتسمل أعينهم، وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا.
قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله، فأنزل الله عزوجل: {إنما الذين يحاربون الله ورسوله} الآية.

.العقوبات التي قررتها الآية الكريمة:

والعقوبة التي قررتها هذه الآية للذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا هي إحدى عقوبات أربع:
1- القتل.
2- أو الصلب.
3- أو تقطيع الايدي والارجل من خلاف.
4- أو النفي من الأرض.
وهذه العقوبات جاءت في الآية معطوفة بحرف أو، فقال بعض العلماء: إن العطف بها يفيد التخيير، ومعنى هذا أن للحاكم أن يتخير عقوبة من هذه العقوبات، حسب ما يراه من المصلحة، بصرف النظر عن الجريمة التي ارتكبها المحاربون.
وقال أكثر العلماء: إن أو لنا للتنويع لا للتخيير ومقتضاه أن تتنوع العقوبة حسب الجريمة، وأن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على التخيير.

.حجة القائلين بأن أو للتخيير:

قال الفريق الأول: إن هذا ما تقتضيه اللغة، ويتمشى مع نظم الآية، ولم يثبت من السنة ما يصرف ما دلت عليه من هذا المعنى.
فكل من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض بالفساد، فإن عقوبته إما القتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي من الأرض حسب ما يكون من المصلحة التي يراها الحاكم في تنفيذ إحدى هذه العقوبات، سواء قتلوا أم لم يقتاوا، وسواء أخذوا المال أم لم يأخذوا، وسواء ارتكبوا جريمة واحدة أم أكثر.
وليس في الآية ما يدل على أن للحاكم أن يجمع أكثر من عقوبة واحدة أو يترك المحاربين دون عقاب.
قال القرطبي: قال أبو ثور: الإمام مخير على ظاهر الآية، وكذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي، كلهم قال: الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الاحكام التي أوجبها الله تعالى من: القتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي بظاهر الآية.
قال ابن عباس: ما كان في القرآن أو فصاحبه بالخيار.
وهذا قول أشعر بظاهر الآية.
قال ابن كثير: إن ظاهر - أو - للتخيير، كما في نظائر ذلك من القرآن كقوله تعالى في جزاء الصيد: {فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما}.
وكقوله في كفارة الفدية: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}.
وكقوله في كفارة اليمين: {فإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة}.
هذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية.